السنة المستقلة بالتشريع وآراء العلماء فيها(18)
المسلك الرابع :
أن القرآن قد ينص على حكمين متقابلين ، ويكون هنالك ما فيه شبه بكل واحد منهما ، فتأتي السنة وتلحقه بأحدهما ، أو تعطيه حكما خاصا يناسب الشبهين .
وقد ينص القرآن على حكم بشيء لعلة فيه ، فيلحق به الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجدت فيه العلة عن طريق القياس .
فمثال : ما أشبه حكمين متقابلين وألحقته السنة بأحدهما ما يلي : حرم الله الميتة وأباح المذكاة ــ أي المذبوح ــ فدار الجنين الخارج من بطن المذكاة ميــتا بين الطرفين فاحتملهما ، فإذا راعينا أنه جزء من مذكاة فهو حلال ، وإن راعينا استقلاله فهو حرام ، فجاءت السنة فألحقته بالمذكاة ، كما قال صلى الله عليه وسلم ذكاة الجنين ذكاة أمه )(1) ومثال ما أشبه حكمين متقابلين وأعطته السنة حكما خاصا يناسب الشبهين ما يلي :
أن الله تعالى أحل في كتابه الكريم صيد البحر فيما أحل من الطيبات ، وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث ، فدارت ميتة البحر بين الطرفين ، فأشكل حكمها ، فقال عليه الصلاة والسلام هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته )(2). ومثال ما نص القرآن عليه لعلة فألحقت السنة به ما توافرت فيه هذه العلة عن طرق القياس ما يلي :
أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة : من النصف ، والربع ، والثمن ، والثلث ، والسدس ، ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبويين فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ)[ سورة النساء / 11 ] . وقوله في الأولاد : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)[ سورة النساء / 11 ] .
وقوله في آية الكلالة : (وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ) وقوله وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ )[ سورة النساء / 176 ] . فاقتضى أن ما بقى بعد الفرائض المذكورة فللعصبة ، وبقى من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين ، كالجد ، والعم ، وابن العم ، وأشباههم ، فقال عليه الصلاة والسلام ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ) (3)، فأتى هذا على ما بقى مما يحتاج إليه ، بعدما نبه الكتاب على أصله(4).
(1) أخرجه أبو داود في سننه ، كتاب الأضاحي ، باب ما جاء في ذكاة الجنين ( 2827 ) والترمذي ، أبواب الأطعمة ، باب ما جاء في ذكاة الجنين ( 4176 ) وابن ماجه ، كتاب الذبائح ، باب ذكاة الجنين ذكاة أمه ( 3199 ) ثلاثتهم من طريق مجالد بن سعيد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رفعه .
وإسناده ضعيف لضعف مجالد ، ولكنه توبع ، تابعه يونس بن أبي إسحاق ، وهو متفق على ثقته ، وأبو الوداك ثقة احتج به مسلم .
وأخرج متابعة يونس عن أبي الوداك : أحمد في المسند ( 3 / 39 ) وابن حبان في الصحيح ( رقم 1077 موارد ) والدارقطني في السنن ( 4/ 274 ) والبيهقي في الكبرى ( 9 / 335 ).
قال ابن حجر في التلخيص ( 4 / 157 ) : " فهذه متابعة قوية لمجالد " وقال المنذري في مختصر السنن 4 /120) :" وهذا إسناد حسن ، ويونس ــ وإن تكلم فيه ــ فقد احتج به مسلم في صحيحه " (2) أخرجه أبو داود في سننه ، كتاب الطهارة ،باب الوضوء بماء البحر ، رقم ( 83 ) ، والترمذي في سننه ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور ، رقم ( 69 ) وقال : حسن صحيح ، ونقل عن البخاري تصحيحه ، والنسائي في سننه ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء بماء البحر ( 1/ 176 ) ، وكتاب الصيد والذبائح ، باب ميتة البحر ( 7/ 207 ) ، وابن ماجه في سننه ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء بماء البحر ، رقم ( 386 ) ، وابن خزيمة في الصحيح ( 1/ 59 ) رقم 111) ، وابن حبان في الصحيح ( رقم 119ـ موارد ) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الفرائض ، باب ميراث الولد من أبيه وأمه ، رقم ( 6732 ) ، وباب ميراث الابن إذا لم يكن ابن ، رقم ( 6735 ) ، وباب ميراث الجد مع الأب والأخوة ، رقم ( 6737 ) وباب أبناء عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج ، رقم ( 6746 ) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب الفرائض ، باب ألحقوا الفرائض بأهلها ، رقم ( 1615 ) .
(4) انظر : الموافقات ( 4/ 352 ـ 392 )